طارق بدراوى
حي كوم الدكة هو أحد مناطق الإسكندرية التاريخية مثله مثل حي كرموز المتاخم له حيث أقيم كلاهما علي مكان قرية كانت تسمي راكوتيس او راقودة ويتبع حاليا حي وسط الإسكندرية ويعلو تلا يرتفع عن منسوب البحر نحو ثمانية إلى عشرة أمتار في منطقة متوسطة بين المناطق السياحية الاثرية والمحاور التجارية لوسط المدينة وهو تل صناعي تكون من ردم المباني التي تهدمت وتراكمت فوق بعضها ويعتبر هذا الحي العتيق بؤرة المنطقة الأثرية في الإسكندرية ولايزال إلي اليوم مليئا بالحفريات والآثار وربما يكون من بينها قبر الإسكندر الأكبر نفسه مؤسس مدينة الإسكندرية والذى لم يتم إكتشافه حتي اليوم وبعد مرور حوالي 2345 سنة بعد وفاته كما إستعملت المنطقة كمقبرة في عصر الإسكندر الأكبر وخلفائه البطالمة وفي العصر الروماني وخلال عصر المماليك وقد عرفت المنطقة قديما بإسم أكروبوليس أى المكان المرتفع عن المدينة والذي اقيمت عليه المعابد والمبانى الدينية وذلك أسوة ببلاد اليونان التي كان ومايزال بها معبد الأكروبول الشهير ويرجع إطلاق إسم كوم الدكة علي هذه المنطقة إلي القرن التاسع عشر الميلادى عندما مر عليها المؤرخ النويري السكندري وشاهد هذا التل الترابي المرتفع والذي يشبه الدكة والناتج عن أعمال حفر ترعة المحمودية التي تغير المدينة بالمياه العذبة في عصر محمد علي باشا حيث تكون هذا التل الترابي من أكوام ناتج الحفر من التراب المدكوك …..
وقد إنتشرت بين أهالى الإسكندرية القدامى أسطورة في غاية الغرابة حول حى كوم الدكة تقول إن الإسكندر الأكبر كان يجلس على أريكة أى دكة بالعامية مصنوعة من الذهب الخالص ومطعمة بالماس والياقوت والجواهر النفيسة وعندما قرر القيام بحملة من حملاته العسكرية إلى خارج البلاد خشى على الأريكة من السرقة فجاء بأحد المهندسين وكلفه ببناء غرفة تحت الأرض وضع فيها الأريكة ثم قام بقتل المهندس الذي يعرف السر حتى لا يكون هناك من يعرف مكان الأريكة غيره وأمر بردم المكان كله دون أن يضع فيه ما يشير إلى مكان الأريكة النفيسة المدفونة ولم يعد الإسكندر الأكبر إلى الإسكندرية بعد ذلك حيث مات في تلك الغزوة التي كانت آخر غزواته وظل مكان الأريكة مجهولا حتي اليوم لكن المكان والمنطقة كلهل إشتهرت بإسم كوم الدكة نسبة إلي دكة الإسكندر الأكبر الذهبية …..
ويتوسط حي كوم الدكة الإسكندرية الحالية حيث يقع في منطقة وسطي بين منطقتين تضم أولاهما أحياء منطقة وسط البلد الراقية بينما تضم ثانيتهما أحياء المدينة القديمة ويتميز حي كوم الدكة بأنه مقام على ربوة عالية كما أسلفنا القول وهي ترتفع عن الشوارع التي تحدها من الجهات الأربع بنحو 60 مترا تقريبا وهو ما يؤكد العديد من الدراسات الآثارية التي تقول إن الحي على صورته الحالية يقبع فوق كنز هائل من الآثار التي يرجع بعضها إلى العصور الفرعونية وبعضها الآخر إلى عصور الإسكندر وخلفائه البطالمة وإلي عصر الرومان فيما تؤكد دراسات أخرى أنه ينتصب فوق واحدة من أهم القلاع القديمة ويذهب كثير من مؤرخي الإسكندرية في عصرنا الحديث إلى القول بأن منطقة كوم الدكة بنيت على صورتها الحالية قبل مئات السنين على أنقاض منطقة تضم قبور عدد من الملوك القدامى بل إن بعضهم يذهب إلى القول إن المنطقة تضم بين ما تضم المقبرة التي دفن فيها الإسكندر الأكبر المقدوني مؤسس مدينة الإسكندرية حيث عند دخول الإسكندر الأكبر إلى مصر إتجه إلى موقع مدينة الإسكندرية الحالي وكانت توجد بهذه المنطقة قرية صغيرة تسمى راكوتيس أو راقودة وكانت هذه القرية هي نواة مدينة الإسكندرية والتي سميت علي إسمه وبعد وفاة الإسكندر الأكبر كان البطالمة حريصين على تقسيم المدينة إلى ثلاث أحياء أو أقسام حي يوناني ويسمي بروشوم وحي مصري وهو حي راكتوس والمعروف الآن بكوم الدكة وحي يهودي يقع في المنطقة الشرقية من المدينة …..
وفي عصر محمد على باشا أعيد تخطيط مدينة الإسكندرية وأصبح حى كوم الدكة في وسط أحياء المدينة حيث تقود شوارعه الضيقة الصاعدة أحيانا والهابطة أحيانا أخرى إلى مختلف أرجاء وأنحاء المدينة حيث تقود إلى الميناء الشرقي والبحر وإلى محطة القطارات الرئيسية وإلي أحياء الرمل والمنشية وإلي الحى اللاتينى وحي محرم بك وإلي منطقة وسط المدينة التجارى ومع مرور الأيام تحول حى كوم الدكة إلى منطقة تسكنها أغلبية شعبية تضم الحرفيين والصنايعية وأصحاب المهن البسيطة والعاملين في قصور الأغنياء في الأحياء المحيطة به وفى زمن الإحتلال البريطانى كان جنود الإحتلال من الإنجليز المتواجدين بالإسكندرية يخشون الاقتراب من ذلك الحى الذي تتجسد وتتأجج فيه الروح الوطنية المناهضة للإحتلال فكان الداخل إليه منهم مفقودا والخارج منه مولودا وكان أهالى الحى يتجمعون كل مساء بعد فراغهم من أعمالهم في مقهى صغير وكان أكثر ما يشغل عقولهم شئون السياسة وكيفية مناهضة الإحتلال وجنوده وما ينتاب مصر من شرور على يد المستعمرين والتابعين لهم من أصحاب المصالح والتوكيلات الأجنبية والنفوذ المستمد من سلطات الإحتلال البريطانى …..
ومن أهم المعالم الأثرية بحي كوم الدكة نجد المسرح الروماني وهو أحد آثار العصر الروماني وقد تمت إقامته في بداية القرن الرابع الميلادي وهو المسرح الروماني الوحيد في مصر وقد إكتشف هذا المبنى بالصدفة البحتة أثناء إزالة التراب للبحث عن مقبرة الإسكندر الأكبر بواسطة البعثة البولندية العاملة في مصر في التنقيب علي الآثار في عام 1960م وأطلق عليه الأثريون إسم المسرح الرومانى عند إكتشاف المدرجات الرخامية به ولكن ثار جدل كبير حول وظيفة هذا المبنى الأثرى وهل هو مسرح أو مدرج دراسي أم ماذا وقد واصلت البعثة البولندية بحثها بالإشتراك مع جامعة الإسكندرية إلى أن تم إكتشاف بعض قاعات للدراسة بجوار هذا المدرج في شهر فبراير عام 2004م وهذا أدر إلي تغيير الإتجاه القائل بأن المدرج الرومانى هو مسرح فهذا المدرج من الممكن أنه كان يستخدم كقاعة محاضرات كبيرة للطلاب وفى الإحتفالات كان يستخدم كمسرح وبحي كوم الدكة أيضا يوجد تمثال للخديوى إسماعيل يتوسط الميدان المعروف بإسمه كان في الأصل يتوسط النصب التذكارى للجندى المجهول المتواجد حاليا بمنطقة المنشية والذى تبرعت بإقامته الجالية الإيطالية بالإسكندرية في لفتة تكريم لمصر عندما إستضافت آخر ملوك إيطاليا فيكتور عمانويل الثالث الذى اقام بمنطقة سموحة بالإسكندرية وتوفي ودفن فيها ثم تم نقل التمثال إلي الميدان المشار إليه وبالإضافة إلي ذلك توجد معالم أثرية رومانية أخرى تتواجد علي مقربة من حي كوم الدكة أشرنا إليها عند الحديث عن حي كرموز المتاخم لحي كوم الدكة وهي عمود السوارى ومقابر كوم الشقافة ……
كما يشتهر حي كوم الدكة بأنه مسقط رأس موسيقار وفنان الشعب سيد درويش حيث ولد بهذا الحي يوم 17 مارس عام 1892م وتزوج في سن صغيرة وهو في السادسة عشر من عمره وأصبح مسؤولا عن عائلة وحاول أن يعمل مع الفرق الموسيقية ولكنه لم يوفق فاضطر أن يعمل عامل بناء وفي أثناء العمل كان يرفع صوته بالغناء فكان العمال من زملائه وأصحاب العمل يعجبون به وكان هناك مقهي بجوار موقع العمل الذى يعمل به ويشاء القدر أن يأتي إلى هذا المقهي الأخوان أمين وسليم عطا الله وكانا من أشهر المشتغلين بالفن في مصر حينذاك فسمعاه وأعجبهما صوته بجماله وحلاوته فكان أن إتفقا معه علي أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في أواخر عام 1908م وبعد ذلك سافر في رحلة أخرى إلى الشام عام 1912م وأقام هناك سنتين وعاد إلى مصر عام 1914م بعد أن تعلم أصول العزف علي العود وكيفية كتابة النوتة الموسيقية وبدأت موهبته الموسيقية تبزغ وتتفجر وقام بتلحين أول أدواره الموسيقية يافؤادى ليه بتعشق عام 1917م وقام بالانتقال الي القاهرة وفيها سطع نجمه وكثر إنتاجه الموسيقي وأصبح من كبار الملحنين وتعامل مع كافة الفرق المسرحية الكبيرة التي كانت مسارحها بشارع عماد الدين الذى كان يعتبر شارع الفن الأول في مصر في ذلك الوقت وتوجد به مسارح الفرق الشهيرة أمثال فرقة نجيب الريحاني وفرقة جورج أبيض وفرقة علي الكسار وفي هذه الفترة قامت ثورة عام 1919م في وجه المحتل الإنجليزي فبدأ سيد درويش يلحن الأغاني الوطنية التي كان يتغنى بها أفراد الشعب مثل قوم يامصرى وبلادى بلادى وأنا المصرى وغيرها مما كان له أثرا كبيرا في تغذية وإذكاء روح الوطنية لدى أفراد الشعب الثائر وكان سيد درويش أول من أدخل مايسمي بالغناء البوليفوني في مصر في العديد من الأوبريتات التي قام بتلحينها مثل أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهر زاد وأوبريت الباروكة ولم يعمر سيد درويش طويلا فقد توفي في ريعان الشباب يوم 10 سبتمبر عام 1923م عن سن بلغت حوالي 31 سنة ونصف السنة عمل منها حوالي 15 سنة في مجال الفن والغناء والموسيقي ومع هذا ففي خلال هذا العمر الفني القصير فقد قام بتلحين وغناء عدد 40 موشحا وعدد 100 طقطوقة وهو لون من الغناء كان سائدا في ذلك الوقت وعدد 30 مسرحية وأوبريت إلى جانب العشرات من الأدوار الغنائية وتم دفنه في مسقط رأسه بحي كوم الدكة بوسط الإسكندرية .